01‏/07‏/2017

الحقيقة.. ما هي الحقيقة ؟!

الحقيقة.. ما هي الحقيقة ؟!

بقلم- أحمد رضي (كاتب بحريني)

سؤال طالما حير البشرية وأتعب عقول الفلاسفة والمفكرين والباحثين عن إشارة تدلهم على الطريق الصحيح. فهناك من بدأ رحلة البحث عن الحقيقة بالنظر لذاته ونفسه، أو بالنظر في محيطه الاجتماعي والإنساني، وآخرين تاهوا في فك أسرار النجوم وطلاسم الفلك والأكوان الواسعة. وبعيداً عن هؤلاء.. تساءلت في نفسي ما هي الحقيقة ؟! ولماذا أسعى إليها بكل شوق وشغف ؟!
أهي ذاك النداء الفطري الذي يخاطب القلب بلغة غير مفهومة، ويسيطر على مشاعري وأحاسيسي؟! أم هو ذاك الصوت المتناغم مع روحي، ويدفعني للمغامرة في طريق الخطر، وهو طريق صعب يتجنبه معظم الناس الراغبين في الراحة والحياة البسيطة. 
لن أتكلم هنا بلغة صعبة كلغة المفكرين والفلاسفة حتى لا نضيع وراء أسئلة لا جواب لها، ولكني سأدفع عقلي وروحي لطرح أسئلتي بحثاً عن الجواب.. وعن الحكمة في منطق الأشياء، والغاية من حياة نعيشها وندعيّ جهلاً أو زوراً أننا نعرف أولها وآخرها، ونخدع أنفسنا بتصوير وجودنا في محيط الجنة والنار بمجرد جرة قلم أو هوى قلب، ونحن نجهل موقعنا الحالي في عالم الوجود بحرارته وناره المستعرة هنا وهناك في فضاء واسع جداً.
سأتواضع وأقول بأني لم أجد الحقيقة وهو كذلك فعلاً، ومن يدعيّ الوصول لها قد يكون كاذباً!! لأن الوصول للحقيقة يعني انتفاء لحظة وجود الإنسان في هذه الحياة القصيرة، وان أقصى ما نصل إليه هو القناعة بضعف عقولنا عن إدراك الحقيقة الكاملة والمجردة من أهواءنا وذواتنا. 
وللحقيقة وجهان (نورٌ ونار).. نورٌ يقذفه الخالق المعبود في قلب مخلوقه وعبده، إذا أحبه بصدق وأخلص له في السر والعلن. وقد يكون نار تحرق صاحبها إذا تجاوز عمداً حدود مملكة الإرادة البشرية، وخاض بجهله في التصرف بإرادة البشر، وتاه ضياعاً بدون غاية في الحياة.
والحقيقة مثل الذهب ينشدها كل باحث عن الجوهر الأصيل، الذي لا يخالطه زور أو بهتان.. لأنها تعبر عن مكنون الإنسان الحقيقي وفطرته الصافية المحبة للوجود الأسمى وللخالق سبحانه وتعالى. 
والحقيقة كالنجم المضيء في فضاء واسع يسافر لها الحالم ليكتشف في النهاية أنه لم يخطو ألا الخطوة الأولى ليعرف نفسه.. وحينها ينفطر القلب حزناً.. ويتوجع كمداً وألماً على تقصيره وتفريطه في حق ربه.. وتعجز الدموع عن التعبير ورسم أسطورة الحب الأسمى (كما فعل جلجامش في رحلة الخلود).
وللحقيقة معلمها الأول الذي لا يغيب، وهو حاضرٌ حين نطلبه أو ندعوه بصدق. فقد نعجز عن رؤية الشمس خلف السحاب الممطرة، ولكنها موجودة غير غائبة، ويصلنا شعاع نورها المضيء. وقد تكون الحقيقة صعبة للبعض، ولكنها دليل الباحث عن الغاية (العدل، السلام، الحرية).. وهي هدف شرعي وثوري لقلب موازين الأمة وجعلها ترجع لروحها وعقلها.
ولطالما أتعبني البحث عن الحقيقة، وأسهرتني ليلاً، وأدمعت عيني حزناً.. وبقدر ما تكون رحلة البحث عن الحقيقة متعبة وصعبة، ألا أنها تستحق المحاولة تلو المحاولة، ومن هنا تكتسب الحياة صفاءها ومعناها السامي، وتستحق أن نعيشها بحضورنا ووعينا وروحنا المدركة لها حتى اللحظة الأخيرة.
ألا يعتقد القارئ الكريم معي بأن الحقيقة هي طريق الخلاص للبشرية عندما نعرف الإجابة على (الأيانات الثلاث) إذا صح التعبير.. وهي (من أين؟، وإلي أين، وفي أين)، كما صرح بها مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) حين قال: (رحم الله من عَرفَ من أين، وفي أين، وإلى أين؟).
ختاماً.. لن أسرف في الحديث حول الحقيقة.. فالحديث ذو شجون. 
وسأكتفي بمقولة الإمام الصادق (عليه السلام): (وجدت علم الناس كلهم في أربع: أن تعرف ربّك، أن تعرف ما صنع بك، أن تعرف ما أراد منك، أن تعرف ما يخرجك من دينك). 
وعليه توكلت على خالقي ومعبودي فهو وكيلي ومعتمدي ورجائي في الدنيا والآخرة، فقد وجدت في حديث الصادق المصدق خير معين للبحث عن الحقيقة، وأروع بداية لكل حائر أو تائه أو باحث عن الطريق السليم.. وقد تكون هناك بقية لحديثي طالما حييّت كباحث عن الحقيقة.
http://www.c-karbala.com/arabic/news/706

 

 

15‏/06‏/2017

خواطر من وحي الألم الإنساني

يا غاية آمال العارفين
خواطر من وحي الألم الإنساني
بقلم: أحمد رضي (كاتب بحريني)
@ahmeddi99

كلمات بسيطة أهديها إلى كل القلوب المتألمة المظلومة والصابرة على البلاء.. وإلى ذوي الشهداء والمعتقلين والمفقودين والمحاصرين والمهجرين قسرا.. وإلى كل متألم وحزين وفاقد لحبيب يجد بكلماتي العزاء والصبر الجميل وباب للدعاء بالفرج.
أتساءل.. لماذا يتألم الإنسان؟!
هل الألم قرين الإنسان منذ لحظة ولادته؟! هل هو قدر يرسم حياة البعض منا؟ ما هو ألمك.. لماذا تخفيه في قلبك.. لماذا تهرب منه؟!
هناك شي مشترك بين أناس كثيرين، أنهم يتألمون بصمت ولا يفهمون لماذا ولأجل ماذا؟!
ألم إنساني عميق يتجاوز فهمنا العقلي ويمس أرواحنا، لهذا تعذبنا مشاعر الفقد والغياب والانتظار والتوق الروحي للعدالة والكمال.
تأخذنا مشاعر الألم لننظر بصورة عميقة في صفحات أنفسنا لنفهم معنى الحياة وفلسفة الوجود، ونكتشف معنى الحب الحقيقي.. مفهوم الحرية.. التوق لعالم أفضل.
كل إنسان تمر عليه لحظات ألم، يكشف عن صراع في نفسه أو عمله أو حياته.. يجلب له الهم والأرق والحزن الشديد. ولكل ألم حكاية وقصة لم تروى بعد لأنها تظل حبيسة قلب صاحبها.. ذكرياتها تجلب العذاب والشقاء ودواؤها النسيان ومتابعة الحياة بأمل وإيمان وصبر والتعلم من تجارب الحياة.
أن تعيش الألم يعني أن تموت في كل حين.. عند اقترابك لذاتك تفزع وتخاف من الحقيقة.. جوهرك غامض وعزلتك تزيد وحدتك. الألم يجعلك تعيش صراع أفكار ومشاعر متناقضة.. لا تفهم نفسك ولا أحد يفهمك كما أنت.. لا يفهمون صمتك ولا يفقهون وحدتك ولا يدركون سبب غربتك.
الألم يفتح بصيرة قلبك للمستقبل.. يجعلك أقوى وأكثر عزماً وصبراً وقوة. الألم قد يكون وهماً عليك تجاوزه وعدم التفكير به.. كثيرة هي الآلام التي يخلقها الوهم ويجعلها واقع.
الألم حكاية من الحكايات في كتاب الحياة، تقرأها بروحك وقلبك وعقلك.. الألم قد يكون أحياناً نقطة البداية للتغيير ومسك الختام لكل إنسان نجح بالتعامل معه بحكمة وتخلص منه، وتخلص من أفكاره السلبية وأوهامه.
الألم مثل المعلم الذي يقسو عليك أحيانا، يعلمك فلسفة الحياة.. قد ترفض الألم في البداية ولكنك تتقبله لاحقاً وتتعايش معه وتتفهم ضرورته وحسناته وسيئاته.. لتكتشف أسرار ذاتك وقوة صبرك وإيمانك.
لماذا نتألم.. لماذا أرواحنا تتعذب حباً وعشقاً.. لماذا تتجرع قلوبنا الغصة والشوق والحنين.. لماذا ترسم دموعنا خواطر أفكارنا.. هل سيطول ألم الفقد والفراق والانتظار.. ومتى يبزغ نور الفجر ويفصح القدر عن أسراره؟!
يحيرني مولاي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من بين كل عظماء البشرية.. حياته قصة ألم وعذاب من أجل الحبيب الأوحد.. كان الدعاء لسان حاله.. عجز أصحابه المقربين عن فهم معدن حكمته وكشف أسراره.. كان يعيش وحدة الغرباء في هذه الأرض، يحمل شعور السجين بين الأحياء.. يبث حزنه وهمه لأحبابه بعد أن فارقه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.. وحزن أكثر بعد وفاة زوجته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام، وهو القائل: فَقْدُ الاْحِبَّةِ غُرْبَةٌ.
كان عليه السلام يخرج وحده ليلاً.. يناجي ربه ويدعوه متضرعاً.. ماذا يقول روحي فداه.. هل سجلت السماء حديثه.. وهل تفقه النجوم كنه صمته وتأمله وهو يدرك سر العالم الأكبر.. وهل أنصت ورق الشجر لأنينه.. وهل يفقه الحجر والتراب والماء أنين فؤداه الحزين؟ وبماذا أبلغ القرآن الناطق ليوصل رسالته لأوصيائه وآخر سلالته الشريفة.. كيف لقلب يحمل علم الأولين والآخرين أن يعيش هذه الغربة والوحدة القاتلة؟ كيف لقلب موحد أن لا يتألم وهو يطلب رضا ربه والفوز برضوانه ولقائه بدار السلام.
أتساءل كيف يتحمل القلب والعقل ما يستبصره من علوم ومعارف وأنباء المستقبل؟! كان يعلم بمقتل أولاده واستشهادهم بين مسموم وقتيل وسجين.. كان يعلم أن آخرهم سيغيب طويلاً، وما أدراك ألم الغياب وفقد الحبيب ووحشة الطريق.. ألمُ عظيم بحجم اتساع الكون وامتداد التاريخ البشري وسعة القلب الإنساني.
كان قلب الإمام علي روحي فداه منبع للحنان والرحمة والعاطفة الإنسانية.. كان يتألم لجوع الأيتام ويخرج ليلا يتفقد أحوال الفقراء.. يلاعب الصغار الذين فقدوا آبائهم في الحروب.. يساعد إحداهن على تجهيز الطعام.. يتذكر نار الآخرة وهو بالدنيا تقيا ورعا نقيا.. يتكلم بلسان الغرباء وخطبة المتقين وفصاحة نهج البلاغة.
ينظر للسماء ويتأمل النجوم.. لعله يستقرأ المستقبل ويستبصر أحوال الأمم القادمة.. ولعله يعرف بأنه سيستشهد في بيت الله كما ولد في بيت الله.. لعله يعلم بأن ولده الإمام الحسن عليه السلام سوف يستشهد مسموماً.. وأبنه سيد الشهداء الإمام الحسين يستشهد قتيلا عطشانا جائعا مظلوماً في ساحة كربلاء، ويبكيه أبنه علي السجاد بكاء الفاقدين.. ولعله يعلم أن ابنته السيدة زينب سوف تسبى كأسيرة من بلد إلى بلد مع أهل بيتها.. لعله يعلم بأن جميع الأئمة الاثنا عشر من صلبه قضوا شهداء لله بكرامة وعزة، وسيخلد شيعتهم ذكرهم بحسينيات ومآتم خالدة حتى يومنا هذا.. وستتم مطاردة شيعته ومحاربة محبيه بالقتل والتعذيب والتصفية بشتى الوسائل طوال سنوات وقرون.. ولعله يعلم أن آخر أبناءه غائب وينتظر الظهور حسب وصايا الأولين والآخرين.
أو لعله يحزن ويتألم في محيط وجوده المفتقر بذاته لكمال خالقه وغاية وجوده.. هل هو حيّ أم ميت حين يفوته جمال معرفة ربه ونفسه بعمره القصير، أم يحزن حزن النبي يعقوب ويفقد بصره حين غاب ولده النبي يوسف عليهما السلام.. وهو مولى الموحدين الحزين العاشق لبعده عن سيده وفراق حبيبه حين يناجيه يا ربي.. يا غاية آمال العارفين. ويبث بعض أحزانه بلسان الدعاء لمريديه كميل بن زياد وأبي حمزة الثمالي. وحتى لحظة ضربه بالسيف على رأسه وهو ساجد لله يصلي، أنفصل عن ذاته بلحظات الألم وقال كلماته المشهورة: فزت ورب الكعبة.. فكيف لا يتألم المحب الموالي لصاحب هذا القلب الإنساني العظيم ويبكيّه حباً ودماً.. يحتار الفكر لعظمة أمير المؤمنين عليه السلام ..السلام عليك يا سيدي ومولاي.
الألم درس عظيم يدفعك لمقاومة الفشل.. كن أنت أقوى منه.. توقف عن الرثاء لنفسك ومعاتبة الآخرين. قد تكون وحيداً وغريباً بين البشر، ولكنك لست وحدك.. هناك كثيرون يتألمون ويصارعون لفهم ألمهم.. هناك من يخسر نفسه وتضيع حياته بحثاً عن الهدف، وهناك من ينجح بالتعامل مع الألم وفهم نفسه والتعايش مع مشاعر الوحدة والغربة.. ويصبح أقوى لأنه انتصر على ألمه ولا يخاف منه.. الألم ربما يكون أكبر معلم لك لتواصل طريقك وترافق الغرباء أمثالك وتعيش لله بحثاً عن الحكمة والحقيقة.. الألم مثل الشمعة اجعلها نور يضيء طريقك ولا تجعلها نار تحرق روحك وحياتك القصيرة.
لا تعش وحيدا بعد اليوم.. أطوِ صفحة الألم بروح التحدي والأمل بالله، ولولا الأمل لمات الإنسان. أزرع الحب والخير في نفسك ليثمر زهراً طيباً. الحب والدعاء والصلاة أقوى علاج للألم.. لا تهرب منه. أفتح قلبك وأطرد الحزن وأحلم بالغد السعيد.. فالألم يصنع العظماء والحلم يصنع الغد الجميل الذي لم نعشه بعد. ثق بالله وبنفسك وآمن بحكمة القدر وأحسن الظن بجميل فعل الخالق، وسترى العجائب تلون صفحة حياتك وقلبك.. هنيئاً للغرباء وحدتهم وألمهم.. لا تنسوني من دعواتكم الطيبة.

* منشور بموقع مركز كربلاء للدراسات والبحوث التابع للعتبة الحسينية المقدسة:

 http://c-karbala.com/arabic/news/701