15‏/10‏/2015

شيعني الحسين في كربلاء

مقال قديم أعيد نشره للفائدة والذكرى..

شيعني الحسين في كربلاء
أحمد رضي (كاتب بحريني):
1/1/2014
هي رحلة مختلفة عن سابقتها، زرتها منذ أكثر من 15 عاماً قبل سقوط النظام البعثي الظالم، وأزورها اليوم في أوج تألقها ومجدها القديم.. هي مدينة كربلاء بالعراق الشقيق.

وصلت لمطار النجف وسارت الأمور بخير رغم تواضع المطار وسوء نظام توزيع الحقائب، وتجاذبني السواق خارج المطار لتوصيلي بأسعارهم المرتفعة. أردت زيارة مدينة كربلاء محطتي الأولى، وكم أشتاق لزيارة سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي عليه السلام وشم عبق البطولة والإباء والعزة والكرامة.. روحٌ تشربت بحب البيت الهاشمي العلوي الطاهر، كيف لا تكره الظلم وتحارب أهله وتمقت أنصاف الحلول.

وطوال مسيرة الطريق تقاطعت بنا السبل من سيارة إلى أخرى بسبب نقاط التفتيش الأمنية، وأثناء المسير رأيت المشاية (كباراً وصغاراً ونساءً) يمشون لمسافة طويلة في رحلة قد تستغرق أيام بطريق طويل يمر بمضايف واستراحات تعكس الكرم العراقي وحبهم لخدمة زوار العتبات المقدسة بمدينة كربلاء.

وقبل وصولي لكربلاء اضطرت أن أمشي مع المشاية حاملاً حقيبتي الكبيرة، وكانت تجربة جميلة وممتعة رغم التعب ومشقة السفر. أحسست بروح تدب في أوصالي تدفعني شوقاً للمسير نحو الحبيب، وإرادة قوية نفضت عني تعب الرحلة.. ورغم برودة الجو وقسوته إلا أن زوار العتبات وعموم الشعب العراقي بمختلف طوائفه وعشائره يتشرف بالمشاركة بهذه المسيرة الطويلة، هي رحلة دينية طويلة تذكرني بمقام المسير بالحج الأكبر أو بتلبية النداء لصاحب العصر والزمان الإمام المهدي المنتظر روحي فداه. ملايين تزحف نحو كربلاء مهد الثورة الحسينية ونقطة التحول الكبرى في الإسلام والعلامة التاريخية الفارقة التي رسمت ملامح الإسلام حيث انتصر الدم على السيف في كربلاء، وخلقت في قلوب محبي الإمام الحسين عليه السلام حرارة لم تنطفئ أبدا.. هو الحب في أجلى صوره، حب خالي من الأنا وأبعد من الذات وأكبر من المصلحة، يجعلك تذوب بحبٍ خالصٍ صافٍ فتسمو بروحك للسماء، فتعانق جوهر ذاتك الحقيقية، لتكتشف نفسك والغاية من وجودك ودورك في الحياة.

لمحت من بعيد القبة الذهبية للمقامين الحسيني والعباسي، انتفض جسدي برعشة غريبة وزادت ضربات قلبي وأخذني الحماس والفرح العارم.. استغرب المحيطون بي، وكأنهم يقولون هل هذا مجنون؟! ماذا أصابه؟! نعم إنه جنون الحب والمعرفة والمثال الذي يتجاوز المادة والواقع ليكون في مقام التصديق والإيمان والتسليم المطلق. ذلك هو جوهر العاطفة الواعية للهدف والمبدأ والرسالة.. فعندما يقرر المقاوم دخول المعركة أو الميدان وهو مدرك بأن موته حياة وشهادته لوجه الله تعالى، وكذلك زيارتك لسيد الشهداء فهي تزرع في نفسك معنى الحب السامي والعشق الحقيقي والفداء والتسليم المطلق.. حرارة كقبس نور يشع في قلبك فلا تعرف سره أو كنهه!!

في كربلاء سيدرك البعض معنى الحزن الحقيقي والغربة وفقدان الأحبة، وكيف عاصر أهل بيت الهاشمي مصيبة مقتل الإمام الحسين (ع) الذي بكاها جده الرسول (ص) من قبل، وما هو الدور الثوري لأخته السيدة زينب عليهم السلام في كشف زيف الإعلام الأموي، وكيف عاشوا بعدها في محنة الأسر والحزن والشقاء الطويل، وقضى أئمة أهل البيت (ع) نحبهم بين المطاردة الأمنية والسجن أو الشهادة في سبيل الله تعالى.

في كربلاء تتأمل موقف آخر أئمة أهل البيت (ع) الإمام المهدي (ع) الغائب الذي ينتظر العالم ظهوره لنشر العدل وحكم الأنبياء والانتصار لثأر الإمام الحسين (ع) وسيادة دولة الرسول (ص).. أليس هو القائل روحي فداه بدعاء الندبة نادباً الإمام الحسين (ع): " لأبكين عليك بدل الدموع دماً.." حرقة قلب تجعلك تتألم بشدة ويعتصرك الألم واللوعة لطول الانتظار وغربة سيدك وقائدك وإمامك.. إنها لحظة الفرج القريب وهو آت حتماً.

في كربلاء رأيت مشاعر فياضة بصور الحب والعشق غارقة في التاريخ القديم المليء بالحزن والألم، وشعائر الحزن لدى شيعة العراق تختلط بها المظاهر الدينية والتقاليد الاجتماعية، وقد تألمت من منظر غريب وغير مألوف لدى أي مجتمع عربي مسلم آخر غير مجتمع العراق، وهو ظاهرة الزحف بين العتبة الحسينية والعباسية بالجسد واليدين للوصول نحو الجهة الثانية.. والمنظر الأكثر ألماً وإيلاماً هو مشهد لطفل معاق يزحف وهو لا يدرك معنى تلك الظاهرة وأثرها عليه، فهل يهدف والده لطلب الشفاعة لشفاء ابنه أو تعزيز قيمة الإيمان الروحية.. لا أعرف ولكنها تستدعي التأمل والتفكير، وليس من الصواب الحكم عليها دون قراءة تاريخ المجتمع العراقي طوال حقب ومراحل تاريخية دامية.

وخارج الحرم العباسي والحسيني.. رأيت حشوداً بشرية هائلة من شتى الدول، رجال ترفع أيديها للدعاء، ونساء بصحبة أولادهن يقرأن الزيارة، وآخرون يبيعون كتب الأدعية أو يقومون بتصوير الزوار مقابل مبلغ بسيط.. استوقفني بمهابة منظر لشاب جالس على الأرض يبكي بحرارة وهو ينظر لضريح أبي الفضل العباس عليه السلام، شدني مهابة الموقف وجلالة المشهد.. اقتربت منه لأمسح على رأسه بحنان أخوي وأطبع قبلة الحب على رأسه بدموع المحبة.

ومن جانب آخر مواكب اللطم والحزن تتواصل على طريق العتبات المقدسة.. أشكال وتشابيه وصور ودموع ورمال كربلاء مطبوعة على الوجوه والرؤوس، كأنك تواكب موكب حزن وعزاء على روح فقيد فقدته للتو. جماهير من شتى المناطق والدول تجتمع في كربلاء في أكبر مسيرة مليونية في العالم، تجعلك تتساءل كيف هو أثر مقتل الإمام الحسين عليه السلام ونخبة من أهل بيته الأطهار في بناء مجتمع شيعي ثوري، ولم تتوقف قوافل الزوار منذ مقتله وحتى الآن رغم مرور أنظمة حكم متتالية وبعضها تعسف بالقوة والسلاح والتعذيب ليمنع الزوار للوصول لحبيبهم ولسان حالهم (لو قطعوا أرجلنا واليدين، نأتيك زحفا سيدي يا حسين).

وفي لحظة من اللحظات سُمعت أصوات انفجارات قريبة من الحرمين، اتضح بأنها محاولة لإرهاب الزوار وإحداث ضرر بالعتبات المقدسة من قبل مجموعات تكفيرية وهابية ولكنها محاولة باءت بالفشل، واندفع الناس يهتفون لبيك يا حسين ولبيك يا عباس بشكل هستيري كردة فعل عكسية لمحاولة إرهابهم إخافتهم وقتلهم.. هؤلاء قوم لا يزيدهم الموت إلا إصراراً وعزيمة وإيمان بعقيدتهم الدينية.

أخذت أتجول في أنحاء مدينة كربلاء وكأني أدخل مدينة من عبق التاريخ القديم، أهلها شعث مغبرين، وهواءها باردٌ جداً، وبيوتها قديمة هالكة، وناسها متمسكة بعادات العشائر القبلية، تحكمهم العادات والتقاليد القديمة.
البحرين كانت حاضرة
في كربلاء بمواكب العزاء ومآتم الحزن ومظاهر المعارضة ملفتة للنظر، فقد خرجت مسيرة نسائية لمناصرة المرأة البحرينية المظلومة، ومسيرة شعبية أخرى لمناصرة الشعب البحراني بعنوان (قواسم البحرين والقطيف) لتحيي ذكرى الشهداء وخصوصاً الأطفال، ورفعت شعارات تنادي بإسقاط النظام وأقيم معرض الثورة البحرينية المظلومة في عامه الثالث وسط تفاعل كبير من الجمهور العراقي وزوار العتبات المقدسة الذي اطّلع على جرائم النظام البحريني والسعودي المحتل وانتهاكاته الحقوقية. وأبدى بعض الزوار خصوصاً من الأهوار والبصرة وجنوب العراق استعدادهم للتدخل العسكري لمقاومة الاحتلال السعودي ومناصرة الشعب البحراني في محنته الطويلة. وفي المهجر ستلاحظ بألم العديد من الزوار المطاردين الذين خرجوا قسراً من وطنهم هرباً من بطش وقمع النظام الحاكم وحماية لأنفسهم ودينهم.

أتساءل.. كيف لزائر الإمام الحسين عليه السلام أن لا يصبح ثائراً وهو يعيش أجواء كربلاء المليئة بروح التحدي والإباء ومفعمة بمشاعر الحب والولاء لسيد الشهداء، وكيف لمحب صادق الإيمان والعقيدة أن لا يتشبع بتلك الروح لتدفعه لإعادة رسم أولوياته في الحياة والفكر والمقاومة.. هي كربلاء منبع الثورة تجعلك تقر بأنها تعيش تحت بركان سينفجر في وقت معلوم ولا تدرك سره ومنتهاه. ولا يمكنك فصل واجبات الزيارة الدينية من مضامينها السياسية والمحرضة على النضال والمقاومة المشروعة، فالحسين عليه السلام ثورة ضد الظلم والاستبداد، وهو ليس مجرد جسد قتل أو شهيد رحل لعالمه الآخر، بل هو مدرسة تستحضر ذكراه لتلهمك الإصرار والثبات وتحدي الأنظمة المستبدة.

ولن تفهم معنى التشيع ومبادئه وقيمه الأخلاقية إلا بعد زيارتك للعراق ولمدينة كربلاء والنجف الأشرف، وستدرك سبب حب ملايين الشيعة لأهل البيت عليهم السلام وإصرارهم العجيب الغريب على عقيدتهم ومبادئهم وشعائرهم رغم مرور آلاف السنين، دفعوا خلالها تكلفة بشرية باهظة من الدماء وأرواح الشهداء، وملايين تم تعذيبهم وزجهم في السجون من قبل الأنظمة الحاكمة المستبدة. هي عقيدة البيت الهاشمي العلوي الذي حاربته قبيلة قريش زمن الجاهلية، وبعدها السلطة الأموية والعباسية وغيرها من أنظمة الحكم التي رسمت ملامح الإسلام المشوه والمحرف الذي يتبناه جمهور من المسلمين دون وعي بالتاريخ الإسلامي أو بالعقيدة الصحيحة.

وفي داخل الحرم العباسي والحسيني تأخذك مهابة المكان وخشوع المصلين ودعوات ولطميات الحشود.. الصلاة والدعاء والزيارة واجبات الزائر بعد عناء السفر، الدعاء بلغة الدموع تسطر به ذكرى المحبة والعشق وشعور المحب الغريب، ولم أنسَ الأحبة والأهل والأصدقاء من الدعاء، ولم أنسَ والدي العزيز رحمه الله، ولم أنسَ أخواني المعتقلين وشعبي المظلوم من الذكر والدعاء بالفرج والنصر القريب.

وفي زيارتي لمدينة النجف الأشرف وفقني العلي القدير أن أزور المرقد الطاهر لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع).. وتلك رحلة أخرى لعالم آخر يجعلك تكتبه بالدموع وتحارب من أجله بدمك وروحك وكل وجودك المنطوي بعالمك الأكبر. والحمد لله الذي وفقني لهذه الرحلة الروحية الدينية الجميلة للعتبات المقدسة الطاهرة، وأسال الله تعالى أن لا يجعله آخر العهد مني لزيارتهم.

ليست هناك تعليقات: