30‏/08‏/2007

علي شريعتي.. غريب في زمن الغربة

بقلم- أحمد رضي (كاتب صحفي):

صحيفة الوقت البحرينية- العدد 556 - 30 أغسطس 2007م.
 
يقف المفكر المرحوم علي شريعتي (1933-1977) في طليعة المفكرين الإسلاميين البارزين بقوة داخل مجتمع الثورة الإسلامية في إيران، وقد امتد تأثيره الفكري والثقافي ليصل لمنطقة الخليج العربي وبالتحديد «البحرين» مع بداية الثورة الإسلامية في إيران.

موقف أشعل الضوء!
وفي موقف لا أنساه حتى هذه اللحظة حدث لي قبل سنوات أثناء احتفال تأبيني بذكرى رحيل الإمام روح الله الموسوي الخميني «قدس سره» بمأتم السنابس، وأثناء إلقاءي لكلمة تبين كيف لعب رجال الدين والمثقفين دوراً كبيراً في توعية الجماهير بالثورة الإسلامية في إيران.. كالأستاذ الشهيد مرتضى المطهري، الدكتور مفتح، الدكتور باهز، المهندس بازركان، بالإضافة إلى الدكتور علي شريعتي.. وكانت المساجد والحسينيات والمراكز الثقافية محطاتهم الأساسية. وفجأة قاطعني أحد رجال الدين بحدة غير متوقعة للجميع، وقال: شريعتي ليس منهم، ليس من رجال الثورة الإسلامية!!
وبالطبع لم أرد عليه تأدباً فلم أرى أية حكمة في مناقشة رجل دين أثناء احتفال علني... وواصلت إلقاء كلمتي حتى النهاية، وحينها أدركت حجم التأثير الفكري الذي خلفه المرحوم علي شريعتي في قلوب وعقول الشباب الذي نهض بالثورة إلى جانب الإمام الخميني مع بقية العلماء والمفكرين الإسلاميين، وحساسية بعض رجال الدين وسوء فهمهم لنظريات المفكر الإسلامي علي شريعتي الذي اثرى المجتمع الإيراني بنظرياته حول علم الاجتماع والسياسة والدين.
 
وربما غاب عن رجل الدين البحراني القادم من قم الحديث الذي صرح به الإمام الخميني بحق شريعتي عندما قال: « لقد اثارت أفكار الدكتور شريعتي -الشهيد- الخلاف والجدل احيانا بين العلماء لكنه في نفس الوقت لعب دورا كبيرا في هداية الشباب والمتعلمين الى الاسلام». هذا إلى جانب إشادة السيد علي الخامنئي بشريعتي بقوله: «ان الاطار التأسيسي الذي يجعل الدكتور شريعتي في اطار الرواد الاوائل يتمثل في قدرته البيانية الفائقة في اعادة طرح الاسلام بلغة حديثة تتناسب مع ثقافة الجيل يومذاك. واذا كان الكثيرون ولجوا قبله هذا المجال، فان النجاح الذي حققه شريعتي لم يحققه سواه».
شريعتي.. في صفوف الانتفاضة البحرانية:
وكأيّ طالب سابق قضى سنين دراسته الدينية برعاية المآتم الحسينية، أذكر بأنني قد استفدت كثيراً من مكتبة مأتم السنابس التي كانت تشجع على استعارة الكتب والمشاركة في البرامج المفتوحة والمسابقات الثقافية.. وكل ذلك حدث قبل عشر سنوات تقريباً، ومع بداية اشتعال أحداث الانتفاضة الشعبية عام 1995م، كانت مؤلفات شريعتي حاضرة بقوة ويتلهف عليها الشباب لقراءتها ومناقشة أفكارها التي تدفعنا دوماً للسؤال والبحث عن الإجابة، وكنت شخصياً أستعين بها لفهم بعض الظواهر الاجتماعية أو تفسير بعض المواقف السلوكية في مجتمعنا البحراني.. هذا بالرغم من أنني لم أكن أحد أولئك الذين رفعوا اسم شريعتي بل رأيته كأيّ مفكر إسلامي من حقنا مناقشته واستلهام العبرة والفائدة من أفكاره ونظرياته دون تقديس للشخصية أو إعطاءها أبعاد رمزية غير حقيقية.
لذلك كان اسم المفكر علي شريعتي حاضراً بقوة في المكتبات الإسلامية، إلى جانب العديد من المفكرين الإسلاميين مثل الفقيه اللبناني الشيخ محمد جواد مغنيه والسيد محمد حسين فضل الله ومرتضى المطهري والسيد دستغيب.. وشخصيات أخرى لعبت مؤلفاتهم وكتاباتهم دوراً كبيراً في صياغة عقولنا الباحثة عن الحقيقة والعدالة والقيم السماوية. وكنت أشهد بمعارض الكتب الثقافية بالبحرين اهتمام الشباب المتزايد بهذه المؤلفات القيمة وحضورها الثوري في الوعي الإسلامي، وحسناً فعلت دار الأمير اللبنانية بطباعة ونشر وترجمة جميع مؤلفات المرحوم علي شريعتي منذ سنوات مضت.
الحج.. الفريضة الخامسة:
ولعل أهم كتاب بنظري أثر في روحي ووجداني من مؤلفات علي شريعتي يمكن القول بأنه كتاب «الحج.. الفريضة الخامسة» وهو عبارة عن تصوير أدبي بليغ لرحلة الحج بجميع مراحلها الرئيسية، مع استحضار للفقه والتاريخ والعلوم الإنسانية وربطها بواقع الشخصية الإسلامية وأحوال المسلمين عموماً. فكان كتاب الحج رفيقي في السفر برحلة الحج الأولى إلى بيت الله الحرام إلى جانب القرآن الكريم وكتب الأدعية الشريفة، الأمر الذي عمق فهمي بمعاني الحج الأكبر منذ لحظة الانطلاق قبل الحج وحتى لحظة النهاية والاحتفال بعيد الأضحى.
 
إشكاليات نتاج مرحلة صعبة:
والقارئ لعلي شريعتي يلاحظ بوضوح الإشكاليات العديدة التي طرحها في نقد أحوال المجتمع والفكر الديني، وهي إشكاليات جاءت في مرحلة صعبة فرضها المشهد الإيراني في طور تحوله إلى مرحلة الثورة الإسلامية حيث شهد المجتمع الإيراني حينها حركة نشطة للتيارات الفكرية والأيدلوجيات الحزبية. فكانت حقبة الخمسينات والستينات الفترة الذهبية لمعظم حركات التحرر الوطني، حيث نشط التيار اليساري والشيوعي في تحريك الشارع العام، وظهر في مواجهته التيار الإسلامي الذي بدأ يحاول صياغة هويته على أيدي مفكرين عظام أمثال شريعتي ومطهري وبهشتي ودستغيب وآخرين.
 
ومن الملاحظ أيضاً أن نتاج تلك المرحلة الحساسة «بعد إنتصار الثورة الإسلامية» عمد البعض إلى تغييب فكر شريعتي ونقده الصريح لبنية المجتمع وعاداته وتقاليده مما جعل رجال الثورة ينظرون بتردد واضح عند ذكره أو الإشادة بمؤلفاته. ولم يشفع له أيضاً تأسيسه لحسينية الإرشاد التي كان يحضرها آلاف الطلبة الجامعيين، وساهمت فكرياً في دفع الشباب نحو الإلتزام العميق بالتشيع وتعزيز الهوية الإسلامية لديهم بإعتراف رجال الثورة الإسلامية أنفسهم.
 
التوفيق بين التراث والمعاصرة:
ولعل أهم ما يميز مدرسة شريعتي الفكرية هو محاولة طرحه لفكر إسلامي توفيقي مستفيداً من دراساته بجامعة السوربون في مجال العلوم الإنسانية وتاريخ الأديان، وملاحظ بأنه يأخذ موقفاً سلبياً من الحضارة الغربية ويراها مادية بحتة بعيداً عن نتاجها الفكري والثقافي. كما تميز بطرح مصطلحات قدمها بصورة قرآنية مبتكرة مثل مفهوم المستضعفين والمظلومين، الإمامة والولاية.. وكما يقول الكاتب أحمد زين الدين (جريدة السفير، 31/1/2003): « اقتبس شريعتي، الذي تعمق في فهم تاريخ الأديان، من أطروحة هنري برغسون تفريقَه بين «الدين المنغلق» و«الدين المنفتح»، ليستخدم هذا التفريق نفسه لبناء ثنائيته الشهيرة التي تميز بين «دين السلاطين» و«دين العامة»، وبين التشيع العلوي (الحق) والتشيع الصفوي (المنحرف)».
 
ويضيف زين الدين: «في هذا المقام التأويلي التوفيقي نزع شريعتي، بخطوة متقدمة ودراية اجتماعية، مفهوم «الإمامة» من مباحث علم الكلام الإسلامي الكلاسي، باتجاهاته الفلسفية التجريدية التي أبقت هذا المفهوم داخل نطاق المقولات والدلالات النظرية والافتراضية، وأدخَلَه في صيرورة الواقع المأزوم وأروقة الاجتماع السياسي، «فاتحًا بذلك كثيرًا من الأبواب المغلقة في المعرفة الإسلامية»، حسب عبارة عبد الرازق جبران في كتابه عن علي شريعتي، مضيفًا بذلك إشكالية الإنسان الاجتماعي وحاجته إلى القيادة الرشيدة ومعتبِرًا الدورَ الاجتماعي معيارًا لجدوى الأفكار أو لتفاهتها. وبهذه النظرة الاجتماعية الواقعية للإمامة تملَّص شريعتي من ذيول المنازعات التي اشتجرت بين المسلمين الأوائل وأراقت الكثير من المداد والدماء، رافضًا الشورى والنص كليهما، ليجعل الخلافة قائمة، لا بالعوامل الخارجية، مثل الانتخاب أو التعيين أو النص الإلهي، غير مقتصرة على سلالة أو قبيلة أو فئة، بقدر ما هي حصيلة حقٍّ ذاتي ناشئ من ماهية الشخص، ومن تشخيص الجماهير له، وتقبُّل إطاعته، والاقتداء به عن قناعة لا يرقى إليها الشك. 
وعلى ضوء هذا الاتجاه الاجتماعي وضرورة التصدِّي لمسائل العصر وقضاياه، ينتقد الكاتب أولئك الفقهاء التقليديين الذين ينكبُّون على ألف مسألة شرعية في آداب التخلِّي «الدخول إلى بيت الخلاء» دون أن يقدموا مسألة واحدة أو حكمًا شرعيًّا واحدًا يتعلق بالمصير المشؤوم الذي ينتظر الأمة والبلاد. وإذ يعتِّمون على حقوق الشعب، يستفيضون في الحديث عن حقوق السيد على عبده (!)، ويتجاهلون كل اللغط حول الرأسمالية والبرجوازية، والاقتصاد الاستعماري والعلاقات الطبقية، وحقوق العامل والمستثمر والفلاح، وصاحب الأرض، والمنتج والمستهلك، وفوائد رؤوس الأموال، إلى ما هنالك».
 
غريب.. مع كل الغرباء:
عموماً.. وبغض النظر عن الإشكاليات المثارة حول أفكار شريعتي، ألا أننا لا يمكن إنكار تأثيره الفكري والروحي الكبير الذي مهد للثورة الإسلامية في إيران مع «آية الله طالقاني» «وآية الله مطهري» وآخرين. كما نجح في إبراز قضايا الإسلام بأسلوبه الواضح من خلال مؤلفاته التي جاوزت المائة وعشرين.