25 نوفمبر 2001
الشيخ علي عبد الرزاق (1887-1966).. الداعية الإسلامي، خريج الأزهر الشريف عام 1912 بشهادة العالمية، عمل كقاضي شرعي بعد تخرجه من جامعة أكسفورد. وهو صاحب الكتاب الهام "الإسلام وأصول الحكم"، وقد أصدره عام 1925 بعد عام واحد من إلغاء الخلافة العثمانية على يد مصطفى كامل أتاتورك (1880-1938). ومهما قيل حول مضمون الكتاب واتجاهاته السياسية المعارضة للعرش المصري (الملك فؤاد)، إلا أنه يمثل طرحاً فكرياً مخالفاً لسواه من التفسيرات التقليدية السائدة وقتذاك، وكسراً للجمود الفكري، ورؤية اجتهادية تعمل على تحريك المفاهيم الإسلامية المتجددة حسب تطورات العصر الحديث. والشيخ علي عبد الرزاق ليس أول من نفى صفة الحُكم والسلطة الدينية عن الإسلام، فقد سبقه الشيخ محمد عبده وتلميذه رشيد رضا. ومن أهم أراءه قوله أن الرسول (ص) كان رسولاً مهمته فقط تبليغ الرسالة، ولم يكن ملكاً يسعى للمُلك والحكم. وبالرغم من الضجة التي أُثيرت حول الكتاب ومؤلفه، إلا أنها لم تتوقف أصدائها وتجاذباتها الفكرية والسياسية على الساحة المصرية والعربية حتى الآن. ولكن بعد كل هذا أليس من حقنا أن نقول رأينا، ونطرح أسئلتنا المستجدة بعد مرور أكثر من نصف قرن على صدور الكتاب. ونعيد مرة ثانية طرح بعض التساؤلات التي ما زالت تشغل الفكر العربي والإسلامي خصوصاً، والذي ما زال البحث عن إجابة عنها تشغل بال العلماء والمفكرين على حد السواء. أتساءل.. هل الإسلام دين ودنيا، أم دين ودولة ؟ وما هي حدود السلطة الدينية في الإسلام؟ وما موقف الإسلام من نظرية الديمقراطية والروح الجماعية النابذة للتفرد بالحكم والاستبداد؟ وهل يمكن اعتبار الديمقراطية كبديل عن نظرية الشورى التي عجزت عن تقديم الحلول العمليّة لمشاكلنا وقضايانا العالقة؟ وهل قدم الإسلام حلولاً لمختلف قضايا العصر ومشاكله، في حين عجزت مختلف التيارات الفكرية والسياسية عن ذلك؟ وما مدى إمكانية نجاح المشروع الإسلامي في قيادة الدولة، قياساً بالتجربة الإسلامية الوحيدة؟! وما هي حدود الطاعة الشرعية (الدستورية) للحاكم المسلم الجائر، الذي يُصادر الحريات ويمنع الحقوق الشرعية والقانونية عن شعبه؟ وإلى أين وصلت الحركة الإسلامية في نهضتها وتقدمها؟ وما موقفنا كعرب ومسلمين اتجاهها؟ وما هي طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي/ الأميركي، هل هو صراعٌ فكري حضاري، أم هو صراع سياسي تحكمه المصالح الغربية في منطقة الخليج والشرق الأوسط عامةٍ ؟! كل هذه الأسئلة وغيرها، أسئلة لم نصل لإجابة كافية لمعالجة أبعادها السياسية والاجتماعية المتابينة، وبيان تأثيرها على بنية العقل العربي الإسلامي. فما بيننا وبين الرأي الآخر مسافة بعيدة، تحكمها علاقة السيف والجلاد!! وما بين الحاكم والمحكوم، علاقة شد وجذب غير متساوية، كالرابطة التي تحكم علاقة الراعي برعيته!! لذا فأن محاكمة الشيخ علي عبد الرازق حينذاك، تذكرنا بمحاكمات العصور الوسطى.. فقد أصدرت هيئة كبار العلماء حكماً بالإجماع يقضي بإخراجه من زمرة العلماء، وطرده من جامع الأزهر ومعاهده، وقطع مرتبه، والعمل على عدم ترشيحه لأي وظيفة دينية أو غير دينية… وقد صدر الحكم يوم الأربعاء 22 محرم 1344هـ 12 آب/ أغسطس 1925. وكان القرار سياسياً أكثر مما هو حكم ديني نافذ، وبعدها أعتزل الشيخ علي عبد الرزاق ورفض إعادة طبع كتابه حتى وفاته. وقد وقف حينذاك الأستاذ عباس محمود العقاد موقفاً يدافع فيه عن حرية الكاتب، في نشر أفكاره وإبداء الرأي.. مع العلم أن العقاد قد حُكم عليه بالسجن تسعة أشهر (1930) بسبب نشاطه السياسي، ومقالاته المنادية بالدستور. ومن جانب آخر يذكرنا كتاب الشيخ علي عبد الرزاق بالضجة التي أثارها كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" عام 1926. مع العلم أن الاثنان (الشيخ علي عبد الرزاق وطه حسين) هما من خريجي جامع الأزهر الشريف، وقد انضما معاً لحزب الأحرار الدستوريين. ويمكن اعتبار "الإسلام وأصول الحكم" أول نص إسلامي يُحاكم بسببه المؤلف، وكان الأحرى أن يُناقش كرأي ويحاور بموضوعية. وهذا النفي للرأي الآخر ومحاولة إسقاطه، عمل بطريقة غير مباشرة على تثبيته ورسوخه أكثر لدى العوام. فقد جاء الكتاب في وقت تشهد فيه الساحة السياسية المصرية تحولاً جذرياً في النظم الحاكمة، حيث بدأت الملكية التي يتزعمها الملك فؤاد تنهار بفعل عوامل عديدة، هذا إلى جانب بروز أحمد عرابي بثورته الشعبية. عموماً، يمكن تشبيه النص الديني/السياسي الجديد الذي أطلقه الشيخ علي عبد الرازق بأنه محاولة لتجسيد الرغبة الإنسانية العادلة لتثبيت الدستور (القانون) وفق اجتهاد جديد مواكب لحركة التغيرات الاجتماعية والسياسية حينذاك، والذي جاء عقب سقوط نظام الخلافة. ويمكن القول أن الحملة السياسية العنيفة التي شنت ضد آراء الشيخ علي عبد الرزاق ومواقفه الفكرية، قد مهدت الطريق للتيارات السلفية الأصولية أن تظهر وتبرز للعلن، على حساب التيار الإسلامي المعتدل. وقد دعا الشيخ بصراحة متناهية، إلى أن يعيش المسلم إسلامه، دون شعور بالغربة والهوان. أيّ أن نعيش القيم الإسلامية بروح العصر ومنجزاته الحضارية، دون أن تسلبنا الأنظمة الغربية حرية التفكير والإبداع والاجتهاد لحل قضايا العصر ومشكلاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فقد أكد الشيخ علي عبد الرزاق على استقلالية الفكر الإسلامي في إبداع نظامه السياسي الذي يوافق أوضاعه الاجتماعية وفق مراحل تقدمه وتطوره. فالكاتب يفكر بعقل إسلامي منفتح على عقلانية الرأي، تحاول استيعاب المفاهيم الإسلامية على ضوء القيم الحضارية المتجددة. وهذا يعطينا أمل بأن المنظومة الإسلامية قادرة على طرح مشروعها الحضاري وفكرها المتصاعد والناهض بالأمة، عبر مختلف الأزمنة والأمكنة. أن الشيخ علي عبد الرزاق مفكر إسلامي وطني فريد، وحق للأمة التي أنجبته أن تفخر به. وسيبقى كتابه علامة بارزة على تقدم الفكر الإنساني، وأهميته التاريخية تنبع من كونه انطلاقة علمية جديدة للإنسان والتاريخ والحضارة. وكم هم قلة أولئك العظماء الذين خلدوا في سماء الفكر الإنساني، وبقيت مؤلفاتهم وتراثهم الحيّ تمدنا بأسباب العلم والتقدم الحضاري. وهذا التنظير الثقافي الفكري لقضايا العصر ومشكلاته، هو وليد لحظات اجتماعية ومراحل سياسية تمر بها كافة الأمم والشعوب. وهو كذلك تأكيد لحرية الفكر وإبداء الرأي، وسيادة لمبادئ حقوق الإنسان في كل زمان ومكان.